كتاب: هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس

الأربعاء، 14 مارس 2012

( إلى الذين يتطلعون إلى الصحوة الإسلامية الصحيحة، و يقلبون وجوههم في السماء ، متضرعين إلى الله لرؤيتها )
بهذه الكلمات يستهل المفكر التربوي الكبير ماجد عرسان الكيلاني كتابه العظيم ( هكذا ظهر جيل صلاح الدين و هكذا عادت القدس )
هذا الكتاب الذي يهديه المؤلف لجيل الصحوة الإسلامية من الشباب المسلم ، المتطلع للنصر و العزة ، العازم على التخلص من المهانة و الذل .
حيث يقدم المؤلف للشباب المسلم في كتابه هذا تجربة مريرة عاشها أجدادنا في تاريخنا المنصرم ،تماثل إلى حد بعيد ما نعيشه اليوم من تجربة أليمة تتمثل في التمزق و الضعف الداخلي ، و الهزيمة و التراجع الخارج فيستلهم الدكتور الكيلاني تجربة المسلمين- إبان الغزو الصليبي- من ذاكرة التاريخ المنسي ، ليسبر أغوارها و يحلل مفرداتها و يفسر أحداثها ،
و ليستنبط بعد ذلك المنهج الذي سلكته الأمة حتى تحولت في غضون نصف قرن من الهزيمة إلى النصر ،و من الهروب إلى المواجهة .
و الكتاب يأتي في مقدمة و ستة أبواب

المقدمة
و يبين فيها المؤلف حاجة فئات المجتمع للكتاب و أهميته للمربين و المفكرين و القادة .
ثم يبين أمراً خطيراً نقع فيه حين نناقش التحديات والأخطار التي تواجه المسلمين اليوم ، فكثيراً ما يستشهد الباحثون والدعاة والمفكرون بانتصارات صلاح الدين، ليدللوا على أهمية الروح الإسلامية في مواجهة هذه التحديات والأخطار, ويخلص هؤلاء إلى أن ما تحتاجه الأمة في معاركها الداخلية والخارجية اليوم ، هو قائد مسلم ، يستلهم روح الجهاد ، ويعبّئ الصفوف ، ويعلن المعركة .
فيبين المؤلف أن هذا الفهم له خطورته لأسباب :
أولها : أنه يصطدم بالقوانين القرآنية التي تقرر أن التغيير إلى الأفضل أو الأسوأ لا يحدث إلا إذا سبقه تغيير جماعي يقوم به القوم لا الأفراد .
والسبب الثاني : أن هذا الفهم يصرف الأنظار بعيداً عن الأمراض الحقيقية التي تنخر في جسم الأمة من داخل ، فتفرز فيها القابلية للتخلف والهزيمة ، ويشغلها بالأعراض الخارجية الناجمة عن تلك الأمراض .
والسبب الثالث: هو أن هذا الفهم ينمي في نفوس القادة روح الفردية والانفراد بالتخطيط والتنفيذ، ويزجّهم في صراع مع كل من يحاول المشاركة في الرأي أو العمل، فينتهون إلى الفشل والإحباط.
كما يستبعد هذا الفهم دور الأمة في المسؤولية ، ويشيع التواكل على القيادات وحدها ، في انتظار ظهور القائد المخلص .
ويقول المؤلف : ( إن صلاح الدين لم يكن في بدايته سوى خامة من خامات جيل جديد مرّ في عملية تغيير غيّرت ما بأنفس القوم من أفكار وتصورات وقيم وتقاليد وعادات، ثم بوّأتهم أماكنهم التي تتناسب مع استعدادات كل فرد وقدراته النفسية والعقلية والجسدية، فانعكست آثار هذا التغيير على أحوالهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، وسدّدت ممارساتهم ، ووجّهت نشاطاتهم )
و يبين المؤلف بعد ذلك أن هذا الكتاب محاولة للإجابة على عدة تساؤلات تمثل عصب كتابه الممتع أوضحها في مقدمة كتابه وهي:
1. ما هي المفاهيم و التصورات والقيم السلبية التي كانت تسود الأمة؟، وكيف تسببت هذه المفاهيم في تهيئة الأمة لقابلية الهزيمة.
2. ما هو التغيير الذي حدث خلال نصف القرن الذي مرَّ بين مذابح المسلمين في أنطاكية وساحات الأقصى وبين ظهور جيل نور الدين وصلاح الدين؟.
3. من هم الذين حملوا مسئولية هذا التغيير الإيجابي؟،وما هو المدى الذي وصل إليه التغيير المقصود؟.
4. هل كان صلاح الدين ظاهرة فردية، وشخصية عبقرية معجزة برزت فجأة على مسرح الأحداث طاهرة مطهرة من عوامل الضعف البشري، أم كان عينة لجيل مثله؟..
هذه هي التساؤلات الرئيسية التي يدور عليها محور الكتاب ، وتمثل أبوابه الستة وفصوله العشرون الإجابة على هذه التساؤلات.
الباب الأول : التكوين الفكري للمجتمع الإسلامي قبيل الهجمات الصليبية
يمهد المؤلف لفصول هذا الكتاب بتقرير أن الهزائم التي حلت بالمسلمين أمام هجمات الصليبيين كانت بعض نتائج ما كان يسود المجتمع المسلم من أفكار واتجاهات وقيم وعادات .
ثم يرصد الكاتب الأفكار التي كانت سائدة في المجتمع الإسلامي قبيل الهجمات الصليبية..
فالطابع المذهبي كان يمزق أواصر المجتمع آنذاك، وخرجت المدارس الفقهية المذهبية عن أداء دورها العلمي إلى تطاحن أضر بالمجتمع وكان الصراع على أشده بين الحنابلة وبين الأشاعرة.. فكل جماعة منها اعتبرت نفسها صاحبة الحق الوحيد في التواجد على مسرح الحياة الإسلامية بسبب تاريخ أسلافها المجيد..
مما ترتب عليه آثار فكرية وتربوية واجتماعية مدمرة رصدها الكاتب بمهارة وشكلت لنا بُعداً لهذا التطاحن.. فمثلاً أدى هذا التطاحن المذهبي إلى هبوط الفكر الإسلامي إلى حالة من الانغلاق والجمود والتطرف وفسد التعليم عندما تفشى فيه التعصب المذهبي ففي عام 470 هـ... كما يرصد الكاتب.. اشتبك طلبة المدرسة النظامية من الحنابلة والشافعية, وانتصر لكل فريق أنصاره من العوام وقتل عشرون وجرح آخرون.. ووقائع أخرى كثيرة رصدها المؤلف تدمي القلوب وتشكل جرس إنذار لنا للائتلاف والتواد خاصة في محيط حركتنا الإسلامية.
· كذلك امتد الانحراف إلى الصوفية، وحادت عن سبيل الكتاب والسنة الذي قيدت به نفسها في مرحلتها الأولى على يد كبار مشايخها كالحارث المحاسبي، والسري السقطي،و الحسن البصري وغيرهم.. ويضرب الكاتب المثل لهذا الانحراف ممثلا في الملامتية والحلولية.
فالأصل في التصوف أنه نشأ كمدارس تربوية – كالمدارس الفقهية- هدفها تزكية النفس وصقل الأخلاق, ولم تكن هذه المدارس تغلو في آرائها ، ولا تخرج عن قيد الشريعة في شيء، غير أن عوامل التطور عملت في هذه المدارس التربوية فطورتها إلى طرق ، كما تطورت المدارس الفقهية إلى مذاهب . وقد أصيب التصوف بالانقسام وانحراف بعض الطرق، كما أن الاضطراب الاجتماعي جعله يجنح إلى عزلة عن الحياة ، ويكتفي بالعمل على خلاص الفرد في الآخرة .
وقد نشبت الخلافات بين الفقهاء والمتصوفة ، إلى جانب الفتن المذهبية، وانتشرت طوائف الجهلة والسطحيين لديهم، ممن كانوا يتلقون عن شيوخهم تلقياً حرفياً وشكلياً وتقليدياً لا طائل تحته .
ويتحدث المؤلف في الفصل الثالث عن تحديات الفكر الباطني ، حيث ازدهرت الحركة الباطنية نتيجة للمذهبية والركود اللذين ضربا الفكر الإسلامي السني ومؤسساته .
فانتشر دعاة الباطنية في غرب العالم الإسلامي وشرقه ، واستطاعوا أن يفسدوا عقائد بعض الناس ، ويثيروا الفتن والقلاقل ، ويغتالوا الشخصيات التي تعارضهم ، فقتلوا مئات القادة والعلماء والسلاطين ، ونشروا الرعب في كل مكان .
وفي الفصل الرابع يتحدث المؤلف عن تحديات الفلسفة والفلاسفة للعقيدة وفكرة النبوة والرسالة في الإسلام منذ القرن الرابع الهجري .
وفي نهاية هذا الباب ، يمكن القول بأن التكوين الفكري والعقدي قد اتسم بأمرين :
الأول : جمود مؤسسات الفكر الإسلامي وتحولها عن رسالتها في ترشيد المجتمع الإسلامي وتوجيهه ، إلى مؤسسات مهنية أكاديمية ، اتسمت بالمذهبية والانقسام وانحراف مناهج التفكير عن الأصول القائمة في القرآن والسنة .
والأمر الثاني : إفساح المجال للعقائد الفكرية والاتجاهات الثقافية التي تهاوت مؤسساتها أمام الفتح الإسلامي ، لتبرز في مظاهر جديدة تتلاءم مع المنعطف العقدي والحضاري الذي أحدثته مدارس الفكر الإسلامي في القرون الثلاثة الأولى

الباب الثاني : آثار اضطرابات الحياة الفكرية في المجتمعات الإسلامية
ويتحدّث فيه عن الفترة التي سبقت الهجمات الصليبية، فيعرض لتكوين هذه المجتمعات ، وللمبادئ والقيم التي كانت توجّه علاقات الأفراد والجماعات ، وتوجه سلوكهم ،
ويلحظ افتقار هذه المجتمعات إلى المفاهيم الصائبة ، والقيادات الناضجة ، حتى سار الناس في حياتهم اليومية والعامة دون إرشاد صحيح ، واختفت الموازين الإسلامية ، وسيطرت الأهواء والشهوات .
وقد أثّر هذا في سائر الميادين الحياتية فأفسدها ، وأضعف مقومات المجتمع في الداخل ومناعة المقاومة فيه ، وجعله عرضة للهزائم والنكسات ..
وقد لاحظ المؤلف فساد الحياة الاقتصادية من خلال قيام وسائل الكسب على أسس غير مشروعة ، فالدولة تفننت في أنواع الضرائب والابتزاز ، حتى الحجاج كانوا يدفعون الكثير للبلد الذي يمرون فيه . وقد أثرى القائمون على أمور الإدارة إثراء يفوق التصور .. واقتفى الجند آثار الأمراء والوزراء فكانوا – إذا ما نشبت الفتن بين الأمراء والسلاطين والملوك – يستغلون الفرصة ، وينهبون المدن والمحلات التجارية والبيوت .
وتفنن التجار في رفع الأسعار ، خاصة خلال ندرة الأقوات والحاجات ، فعانت الجماهير من ضروب الجوع مالا يمكن تصوره ولا تصديقه ، وتكاثرت المصائب والفقر والأمراض ، وأسهمت في إضعاف المجتمعات الإسلامية أمام الأخطار الخارجية ..
وفسدت الحياة الاجتماعية نتيجة لانهيار وحدة العقيدة في الحياة الفكرية ، كما انهار مفهوم الأمة الإسلامية، وحلّت محلّه مفهومات العصبية والإقليمية والعشائرية والمذهبية ، وانصرف الناس إلى الانشغال بقضاياهم اليومية الصغيرة التي تدور حول الغذاء والكساء والمأوى والتنافس في التجارات واللهو وتلبية الشهوات ، وانتشر النفاق والوصولية ، وسقطت الأخلاق وانهارت القيم ، وصار الحديث عن المثل العليا أو القضايا العامة ، إما وسيلة ثقافية يتكسب بها الخطباء والوعاظ ، أو مثاليات وخيالات يستخف بها الكثيرون .
ولقد وصف المؤرخ أبو شامة ناس تلك الفترة فقال : ( كانوا كالجاهلية ، همة أحدهم بطنه وفرجه ، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً ).
وفي الفصل السابع تحدث المؤلف عن الانقسام السياسي ، إذ ظهرت دويلات في دمشق والموصل وسواهما ، واستمرت علاقات الشك والريبة والطمع تحكم تلك الدويلات التي دخلت فيما بينها في صراعات وحروب انعكست على الجماهير الذين كانوا يتعرضون للإيذاء والنهب والتفكك الاقتصادي والاجتماعي ، واستغل الصليبيون حالة الوهن والضعف هذه ، فأغاروا على البلاد ، وفتكوا بالعباد ، وكان أمراء بعض البلاد أكثر شراً من الصليبيين .
ويتناول الفصل الثامن حالة ضعف العالم الإسلامي أمام الهجمات الصليبية ودخول أميري حلب ودمشق في طاعة الصليبيين وأداء الجزية لهم ، وسقطت أنطاكية ثم بيت المقدس عام 492 هـ / 1098م واقترف الصليبيون المذابح الوحشية في كل مدينة أو قرية دخلوها ، وخاضت خيولهم بدماء الضحايا من الرجال والنساء والأطفال ، فيما كان السلاطين والأمراء لاهين في منازعاتهم وخصوماتهم ، وفيما كانت الجماهير مشغولة بشؤونها الصغيرة وقضاياها التافهة ، ولم تحركهم دماء أكثر من سبعين ألف شهيد من المجاورين والعلماء والطلاب والعباد والزهاد الذين فتك بهم الصليبيون في ساحة المسجد الأقصى .
الباب الثالث : المرحلة الأولى لحركة التجديد والإصلاح
ثم للإجابة عن السؤال الثاني المستفسر عن ماهية التغيير الذي حدث حتى ظهر جيل صلاح الدين؟
يخصص الكاتب البابين الثالث والرابع للحديث عن حركات الإصلاح التربوية الاجتماعية والتي حاولت أن تنهض بالمجتمع من كبوته عن طريق إرجاعه إلى صحيح الإسلام وتغيير ما بالنفس .
حيث مرّت عملية التغيير بمرحلتين :
الأولى : اتخذت طابعاً سياسياً قادتها حكومة السلاجقة ، ووجهتها جماعة الشافعية .
أما المرحلة الثانية : فقد بدأت في ميدان القيم والمعتقدات ، واستمرت حتى بلغت مداها المطلوب في دحض المحتلين من الصليبيين ، ودفع تحديات الباطنية وتحرير المقدسات .
و من أهم الحركات التي عملت على تغيير المجتمع المسلم و النهوض به ،
الحركة التي بدأها الإمام أبو حامد الغزالي - رحمه الله - والذي يخصص الكاتب كل الباب الثالث في استقراء آرائه التربوية وأفكاره الإصلاحية .
حيث أقام الغزالي منهجه الإصلاحي على ثلاث قواعد كما يقول الكاتب..
القاعدة الأولى.. إن الأساس في وجود الأمة الإسلامية هو إخراجها لحمل رسالة الإسلام إلى العالم أجمع, وحين قعد المسلمون عن تبليغ الرسالة امتلأت الأرض بالفتن.
القاعدة الثانية.. إنه من الواجب أن يجري البحث في أسباب هذا القعود من داخل المسلمين أنفسهم.
القاعدة الثالثة.. إن واجبنا و نحن نتلمس أسباب القعود أن نستهدف التشخيص وتقديم العلاج لا مجرد توترات سلبية تقوم على التلاوم وتبادل الاتهام.
فالغزالي يعالج ( قابلية الهزيمة ) بدل التباكي على ( مظاهر الهزيمة ) , لأن المشكلة في نظره إنما تكمن في فساد المحتويات الفكرية والنفسية عند المسلمين ، في أمور العقيدة والاجتماع وما سوى ذلك
أما ميادين الإصلاح عنده فكانت كالآتي..
1. العمل على إيجاد جيل جديد للتربية والتعليم.
2. وضع منهاج جديد للتربية والتعليم.
3. إحياء رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
4. الاعتراض على السياسات المالية الجائرة للسلاطين والحكام.
5. محاربة المادية الجارفة والسلبية الدينية, وتصحيح القصور السائد عن الدنيا والآخرة.
6. الدعوة للعدالة الاجتماعية.
7. محاربة التيارات الفكرية المنحرفة.
· هذا وقد كان من آثار مدرسة الغزالي ظهور نوع جديد من المدارس والمؤسسات التربوية الخاصة التي استلهمت روح المنهاج التربوي الذي بلوره الغزالي وهي المدارس التي يفرد لها المؤلف الباب الرابع

الباب الرابع : انتشار حركة الإصلاح والتجديد والمدارس التي مثلتها
حيث انتشرت المدارس التي سارت على منهج الغزالي في عموم المجتمع المسلم
وقد قسمها المؤلف إلى قسمين:
الأول : أقيم في العاصمة بغداد وعواصم الأقاليم,
الثاني : ركز على تربية العامة من الفلاحين والأكراد والبدو وعوام الأحياء الشعبية في المدن لتربية ناشئتهم على أفكار ومبادئ الحركة الاصطلاحية الجديدة.
· أما مدرسة العاصمة.. مدرسة بغداد فقد أرسى قواعدها عبد القادر الجيلاني - رحمه الله- وقد استقصى الكاتب جوانب هذه المدرسة.. وكيف اجتمعت فيها المعرفة العلمية بالتربية الروحية حيث كان الجيلاني ملتزماً بالكتاب والسنة وكان عبد القادر يدرس بنفسه ثلاثاً وثلاثين سنة.
· وبجانب التدريس كان الشيخ يمارس الوعظ باستمرار.. وفي هذه المواعظ مارس عبد القادر دوره النقدي للخلل الذي طرأ على طوائف عديدة بالمجتمع منهم العلماء, والوزراء والحجاب وغيرهم ولقد تركزت تعاليم عبد القادر في ميدان القيم الإسلامية, وهذه التعاليم تبلورت فيما يلي:
1. التوحيد.
2. تصويب مفهوم القضاء والقدر.
3. تصويب مفهوم الإيمان.
4. تصويب مفهوم أولي الأمر ومفهوم الأمر بالمعروف.
5. منزلة الدنيا والآخرة.
6. النبوة والأنبياء.
7. مكانة الزهد في الإسلام .
· ثم يذكر الكاتب القسم الثاني من المدارس التربوية والمؤسسات الإصلاحية وهي مدارس النواحي والأرياف والبوادي, ويذكر الكاتب أربعاً وعشرين مدرسة بتفصيلات موجزة لأنها تعتبر امتداداً.. للمدرستين الغزالية والقادرية اللتين أشار إليهما بالتفصيل.
· وكان الرباط الجامع لهذه المدارس هو مجاهدة النفس وتربيتها ودعوة الناس إلى صحيح الدين من جديد.. ويمكن القول أن الدور الذي قام به شيوخ هذه المدارس كان دوراً عظيماً يعطينا صورة صحيحة عن التصوف الذي كان سائداً آنذاك وهو تصوف مقيد بالكتاب والسنة, يلعب دوراً إيجابياً في خدمة المجتمع, قبل أن يدخل عليه الانحراف والتشوهات الفلسفية ويتحول إلى حركة سلبية انعزالية.
· مثلت هذه المدارس التربوية حركة إصلاح واسعة النطاق عميقة التأثير أسهمت في إخراج دولة تأثرت بهذا الفكر الإصلاحي التربوي وهي الدولة الزنكية أو ما يطلق عليها الكاتب (أمة المهجر).

الباب الخامس : الآثار العامة لحركة الإصلاح والتجديد
يتحدث المؤلف فيه عن الدولة الزنكيّة وسياساتها في الإصلاح والتّجديد، وإعداد الشّعب إعداداً إسلاميّاً وصبغ الدولة بالصبغة الإسلامية...
وهكذا تبرز طبيعة الاستراتيجية التي عملت مدة نصف قرن ، هيأت المجتمع الإسلامي لمواجهة الأخطار المحيطة به ، هذه الاستراتيجية التي أبدعها نور الدين وصلاح الدين اللذان كانا طليعة جيل مرّ بعملية تغيير شاملة ، لها برامجها ومؤسساتها ورجالها ، تغيير ما ران على القلوب والعقول من أفكار وتصورات وقيم وعادات وتقاليد ، فتغيرت نتيجة لذلك ، اتجاهاتهم وممارساتهم وإداراتهم السياسية والعسكرية والاقتصادية ، وانتهى ذلك كله إلى إحلال الوحدة محل الفرقة ، والقوة محل الضعف ، والاستقرار بدل الاضطراب ، والشعور بالمسؤولية بدل الأنانية ، والانتصار بدل الهزائم .
ويرصد الكاتب ستة أمور تميزت بها سياسة الدولة الجديدة خلال فترة نور الدين وهي..
1. إعداد الشعب إعداداً إسلامياً, وتطهير الحياة الدينية والثقافية من التيارات الفكرية المنحرفة كالباطنية.
2. صبغ الإدارة بالصبغة الإسلامية, وشيوع العدل والتكافل الاجتماعي.
3. نبذ الخصومات المذهبية وتعبئة القوى الإسلامية وتنسيق جهودها ضمن منهاج عمل موحد.
4. ازدهار الحياة الاقتصادية وإقامة المنشآت والمرافق العامة.
5. بناء القوة العسكرية والعناية بالصناعات الحربية لمواجهة الصليبيين.
6. القضاء على الدويلات المتناثرة في بلاد الشام وتحقيق الوحدة الإسلامية بين الشام ومصر والجزيرة العربية.
هذه الركائز الست التي ميزت سياسة الدولة الجديدة.. يمضي الكاتب في شرحها وبسطها في فصول هذا الباب, والتي أدت إلى بزوغ نجم صلاح الدين على مسرح الأحداث والذي تربى في كنف الدولة النورية وتضلع من مبادئها الإصلاحية, وتأثر بالآراء التربوية للشيوخ المصلحين.
فهي جهود متعاقبة تسلم بعضها لبعض, وتكمل الجهود اللاحقة ما سبقها من جهد وتبنى عليه حتى آتت ثمارها المرجوة في استعادة بيت المقدس على يد صلاح الدين.. وهو الهدف الذي كان يرنو إليه كل مسلم صادق.
ولا يفوت الكاتب أن يقيم مدارس الإصلاح والتجديد, والمصير الذي آلت إليه مستعيناً بآراء ابن تيمية رحمه الله, ووضح كيف أن هذه المدارس بدأت بدايات سليمة قائمة على الكتاب والسنة, ثم طرأ عليها التغيير والانحراف في النهايات وتسربت إليها البدع بصورة كبير.

الباب السادس : قوانين تاريخية وتطبيقات معاصرة
وفي الباب السادس والأخير يحاول الكاتب - كمتخصص في التاريخ وأصول التربية -استخلاص قوانين من أحداث التاريخ تحكم الأحداث والظواهر وهي الغرض الأساسي الذي يبغيه الكاتب من هذا البحث.. فهو يقول : (ولكنا نريد من هذا البحث أن يكون سبباً مثيراً يلفت الانتباه إلى ضرورة وجود فقهاء في الاجتماع البشري يحسنون اكتشاف السنن والقوانين التي تخضع لها المجتمعات الإسلامية , ثم النظر في كيفية تأثير هذه القوانين إيجابياً)
ومن هذه القوانين التي يذكرها المؤلف..
1. إن صحة المجتمعات ومرضها أساسها صحة الفكر أو مرضه.
2. مع أن الإسلام هو العلاج المؤدي إلى صحة المجتمعات وقيام الراقي من الحضارات, إلا أن الإسلام لا يؤدي هذا الدور الحضاري إلا إذا تولى فقهه أولو الألباب والإرادات العازمة النبيلة.
3. ما لم يتزاوج الإخلاص مع الاستراتيجية الصائبة في تعبئة الموارد والقوى البشرية في الأمة فإن جميع الجهود والطاقات سوف تذهب هدراً على مذابح الصراعات الداخلية وتؤول إلى الفشل والإفلاس . . . . . . .
إلى غيرها من القوانين التاريخية التي حفل بها الباب السادس والتي تصل إلى أحد عشر قانوناً.
·إن هذا الكتاب - فيما نحسب - دعوة إلى إعادة قراءة تاريخنا واستلهام نماذجه الناجحة, ودعوة إلى فقه سنن التغيير , وكيف أن ظاهرة صلاح الدين ليست ظاهرة بطولة فردية خارقة, ولكنها خاتمة ونهاية ونتيجة مقدرة لعوامل التجديد, ولجهود الأمة المجتهدة , وهي ثمرة مائة عام من محاولات التجديد والإصلاح, وبذلك فهي نموذج قابل للتكرار من كل العصور وهو بذلك يستحق القراءة والدراسة بتمعن وتفكر.