شروط النهضة عند مالك بن نبي

الثلاثاء، 24 أبريل 2012

   
لقد ظل العالم العربي خارج التاريخ دهراً طويلاً كأن لم يكن له هدف ، فاستسلم المريض للمرض ، وفقد شعوره بالألم حتى كأن المرض صار يؤلف جزءاً من كيانه  .
وقبل ميلاد القرن العشرين سمع من يذكره بمرضه ، ومن يحدثه عن العناية الإلهية التي استقرت على وسادته ، فلم يلبث أن خرج من سباته العميق ولديه الشعور بالألم . وبهذه الصحوة الخافتة تبدأ بالنسبة للعالم الإسلامي والعربي حقبة تاريخية جديدة يطلق عليها : النهضة .
ولكن ما مدلول هذه الصحوة ؟ إن من الواجب أن نضع نصب أعيننا (المرض) بالمصطلح الطبي لكي تكون لدينا عنه فكرة سليمة ، فإن الحديث عن المرض أو الشعور به لا يعني بداهة (الدواء) .
ونقطة الإنطلاق هي أن الخمسين عاماً الماضية تفسر لنا الحالة الراهنة التي يوجد فيها العالم العربي اليوم ، والتي يمكن أن تفسر بطريقتين متعارضتين : فهي من ناحية : النتيجة الموفقة للجهود المبذولة طوال نصف قرن من الزمان من أجل النهضة .
وهي من ناحية أخرى : النتيجة الخائبة لتطور استمر خلال هذه الحقبة دون أن تشترك الآراء في تحديد أهدافه أو اتجاهاته .
ومن الممكن أن نفحص الآن سجلات هذه الحقبة ، ففيها كثير من الوثائق والدراسات ومقالات الصحف والمؤتمرات التي تتصل بموضوع النهضة هذه الدراسات تعالج الاستعمار والجهل هنا ، والفقر والبؤس هناك ، وانعدام التنظيم واختلال الاقتصاد أو السياسة في مناسبة أخرى ، ولكن ليس فيها تحليل منهجي للمرض ، أعني دراسة مرضية للمجتمع العربي ، دراسة لا تدع مجالاً للظن حول المرض الذي يتألم منه منذ قرون .
ففي الوثائق نجد أن كل مصلح قد وصف الوضع الراهن تبعاً لرأيه أو مزاجه أو مهنته . فرأى رجل سياسي كجمال الدين الأفغاني أن المشكلة سياسية تحل بوسائل سياسية ، بينما قد رأى رجل دين كالشيخ محمد عبده أن المشكلة لا تحل إلا بإصلاح العقيدة والوعظ ...الخ ... على حين أن كل هذا التشخيص لا يتناول في الحقيقة المرض بل يتحدث عن أعراضه .
وقد نتج عن هذا أنهم منذ مائة عام لا يعالجون المرض ، وإنما يعالجون الأعراض ، وكانت النتيجة قريبة من تلك التي يحصل عليها طبيب يواجه حالة مريض بالسل ، فلا يهتم بمكافحة الجراثيم ، وإنما يهتم بهيجان الحمى عند المريض .
والمريض نفسه يريد - ومنذ مائة عام -  أن يبرأ من آلام كثيرة : من الاستعمار ونتائجه ، من الأمية بأشكالها ، من الفقر رغم غنى البلاد بالمادة الأولية ، من الظلم والقهر والاستعباد ، من ومن ، ومن ، وهو لا يعرف حقيقة مرضه ولم يحاول أن يعرفه ، بل كل ما في الأمر أنه شعر بالألم ، ولا يزال الألم يشتد ، فجرى نحو الصيدلية ، يأخذ من آلاف الزجاجات ليواجه آلاف الآلام .
وليس في الواقع سوى طريقتين لوضع نهاية لهذه الحالة المرضية ، فإما القضاء على المرض وإما إعدام المريض . لكن هناك من له مصلحة في استمرار هذه الحالة المرضية سواءً أكان ممن هم في الخارج أو ممن يمثلونهم في الداخل .
لقد دخل المريض إلى صيدلية الحضارة الغربية طالباً الشفاء ، ولكن من أي مرض ؟ وبأي دواء ؟ وبدهي أننا لا نعرف شيئاً عن مدة علاج كهذا ، ولكن الحالة التي تطرد هكذا تحت أنظارنا منذ نصف قرن ، لها دلالة اجتماعية يجب أن تكون موضع تأمل وتحليل . وفي الوقت الذي نقوم به بهذا التحليل يمكننا أن نفهم المعنى الواقعي لتلك الحقبة التاريخية التي نحياها ، ويمكننا أيضاً أن نفهم التعديل الذي ينبغي أن يضاف إليها .
إن مشكلة النهضة تتحلل إلى ثلاث مشكلات أولية : مشكلة الإنسان ، ومشكلة التراب، ومشكلة الوقت ، فلكي نقيم بناء نهضة لا يكون ذلك بأن نكدس المنتجات ، وإنما بأن نحل هذه المشكلات الثلاث من أساسها .
أولاً : مشكلة الإنسان ...
ثانياً : مشكلة التراب ...
ثالثاً : مشكلة الوقت ...
1ً- الإنسان :
إن المشروع الإصلاحي يبدأ بتغيير الإنسان ، ثم بتعليمه الإنخراط في الجماعة ثم بالتنظيم فالنقد البناء .
وتبدأ عملية التطور من الإنسان لأنه المخلوق الوحيد القادر على قيادة حركة البناء ، وتحقيق قفزات
نوعية ، تمهيداً لظهور الحضارة . أما المادة فمهما يكن من أمرها تكديساً وزيادة ، فإنها تبقى تجميع كمي لا يعطي معنى كيفياً نوعياً ، إلا بسلامة استخدام  الإنسان له(201،200:8) .
فلكي يتحقق التغير في محيطنا يجب أن يتحقق أولاً في أنفسنا وإلا فإن العربي لن يستطيع إنقاذ نفسه ولا إنقاذ الآخرين، ثم إذا كان منهج الرسالة يقتضي التغيير ، والتغيير يقتضي تغيير ما في النفوس أولاً ... لقوله تعالى  "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" (سورة الرعد ، الآية : 11) ، وعندها يجب على العربي أن يحقق بمفرده شروطاً ثلاثة :
1-   أن يعرف نفسه .
2-   أن يعرف الآخرين ، وأن لا يتعالى عليهم وأن لا يتجاهلهم (59،58:8 )
3- ويجب عليه في الشرط الثالث أن يعرف الآخرين بنفسه ولكن بالصورة المحببة ، بالصورة التي أجريت عليها كل عمليات التغيير بعد التنقية والتصفية من كل رواسب القابلية للاستعمار والتخلف وأصناف التقهقر
فالإنسان هو الهدف وهو نقطة البدء في التغيير والبناء ، ومهما جرت محاولات تحديثية بوساطة
الإستعارة ، أو الشراء للمصنوعات ومنتجات التقنية ، فإن هذه المحاولات ستكون عقيمة ، طالما أنها لم تبدأ من حيث يجب ، فالحل الوحيد منوط بتكوين الفرد الحامل لرسالته في التاريخ ، والغني بأفكاره على حساب اشيائه
إن العلوم الأخلاقية والاجتماعية والنفسية تعد اليوم أكثر ضرورة من العلوم المادية فهذه تعتبر خطراً في مجتمع مازال الناس يجهلون فيه حقيقة أنفسهم أو يتجاهلونها ومعرفة إنسان الحضارة وإعداده ، أشق كثيراً من صنع محرك أو تقنية متطورة ، ومما يؤسف له ان حملة الشهادات العليا في هذه الاختصاصات هم الأكثر عدداً في البلدان المتخلفة لكنهم لم يكونوا إلا حملة أوراق يذكر فيها اختصاصهم النظري ، فصاروا عبئاً ثقيلاً على مسيرة التنمية والإصلاح ، فهم القادة في المجتمعات المتخلفة على الرغم من عجزهم عن حل أبسط المشكلات بطريقة علمية عملية ، وإلا لما تخلف مشروع النهضة حتى الوقت الحاضر ، ونحن بحاجة إلى دروس في منهجية العمل في سائر مستويات عملنا .
فلتبدأ المنهجية اولاً في مستوى الحديث المجرد ، لأن كل عمل اجتماعي يقتضي تبادل أفكار بين عدد من الاشخاص .
إن الحوار هو أبسط صورة لتبادل الأفكار ، وهو بذلك المرحلة التمهيدية البسيطة لكل عمل مشترك فقواعد الحديث إذن لا تخص حسن الآداب فقط ، بل هي جزء رئيسي من تقنية العمل . ونحن نجد هذه الصلة ، بصورة رمزية ، في العهد القديم عندما يقص علينا: كيف اصبح عمل القوم مستحيلاً في تشييد برج بابل ، عندما اختلفت ألسنتهم ، ففي هذه القصة نرى كيف يتعطل العمل بمجرد ما تعطل تبليغ الأفكار بالكلام .
فالقضية إذن لا تخص قواعد الحديث وحسن السلوك في المنتديات والمؤتمرات والصالونات والمقاهي فحسب ، بل تخص مباشرة تقنية العمل من زاوية الفعالية ، فحيث لا يكون الحديث لمجرد التسلية ، يجب أن يخضع لقواعد العمل ، الذي ليس في بداية ومرحلة تحضيرة ، سوى مشروع في محتوى بعض الكلمات وبعض الأفكار ، وفي هذا المستوى ، يتداخل الجانب الأخلاقي والجانب المنطقي ليكونا معاً العمل الفعال أو العمل التافه(40:8) وأظن أننا لا نزال كأمة في المستوى الثاني .
فليس من الضروري - ولا من الممكن - أن يكون لمجتمع فقير ، المليارات من الذهب كي ينهض ، وإنما ينهض بالرصيد الذي لا يستطيع الدهر ان ينقص من قيمته شيئاً، الرصيد الذي وضعته العناية الإلهية بين يديه : الإنسان ، والتراب ،          والوقت(60:2)، فالثورة لا ترتجل ، إنها إطراد طويل ، يحتوى ما قبل الثورة والثورة نفسها ، وما بعدها والمراحل الثلاث هذه لا تجتمع فيه بمجرد إضافة زمنية ، بل تمثل فيه نمواً عضوياً وتطوراً تاريخياً مستمراً ، وإذا حدث أي خلل في هذا النمو وفي هذا التطور فقد تكون النتيجة زهيدة تخيب الآمال(12،11:2) .
فالثورة قد تتغير إلى "لا ثورة" بل قد تصبح "ضد الثورة" بطريقة واضحة خفية، والأمر الذي لا يجوز أن يغيب عن أذهاننا في هذا الصدد هو أن مجتمعاً ما بمقتضى طبيعته البشرية ينطوي على خمائر من روح - ما ضد الثورة - طبقاً لمبدأ التناقض تناقضاً مستمراً. حتى في فترة ثورية نستطيع تتبع آثاره في تاريخ كل الثورات . بحيث لا يغني أن ندفع عجلة الثورة في وطن ما ، بل يجب أن نتتبع حركتها ورقابتها بعد  ذلك(14،13:2) .
وطالما كانت الإرادة الحضارية طوع الفكرة فإننا إزاء عصر التلقين المستبد بتصوراتنا ومفاهيمنا نواجه انهيار هذه الإرادة حتى لا تقوى على احتضان المصير، والصراع الفكري يجد إطاره الأوسع في البلاد المحكومة بشبكة من الإيحاءات ، تدلي بها مراصد الاستعمار ، لتصنع متقلب الأحداث وسوء منقلبها حيال كل نهضة فاعلة في عالمنا العربي والإسلامي .
فالمشكلة مشكلة أفكار في النهاية ، لأننا بها ننظم خطانا في ثبات الأديم ، وندفع طاقتنا في مضاء العزيمة ، ونحشد وسائلنا في وثيق الإنجاز .
إن لكل حضارة نمطها وأسلوبها وخيارها . وخيار العالم الغربي ذي الأصول الرومانية الوثنية قد جنح بصره إلى ما حوله مما يحيط به : نحو الاشياء، بينما الحضارة العربية الإسلامية عقيدة التوحيد المتصل بالرسل قبلها سبح خيارها نحو التطلع الغيبي وما وراء الطبيعة : نحو الأفكار .
والإنسان حينما ينظم شبكة علاقاته الاجتماعية بوحي الفكرة في انبثاقها ، فإنه يتحرك في مسيرته عبر الأشخاص والأشياء المحيطة به فيتخذ العالم الثقافي إطاره في إنجاز هذه المسيرة ويأخذ طابعه تبعاً للعلاقة بين العناصر الثلاثة المتحركة : الأشياء، الأشخاص ، الأفكار .
فهناك توازن لابد منه بين هذه العناصر الثلاثة يسكب مزيجها في قوالب الإنجاز الحضاري ، فإذا ما استبد واحد من هذه العناصر وطغى على حساب العنصرين الآخرين فثمة أزمة حقيقية في مسيرة الحضارة تلقي بها خارج التاريخ فريسة طغيان الشيء أو طغيان الشخص .
ففي بلد متخلف يفرض الشيء طغيانه بسبب ندرته ، تنشأ فيه عقد الكبت والميل نحو التكديس الذي يصبح في الإطار الاقتصادي إسرافاً محضاً . أما في البلد المتقدم وطبقاً لدرجة تقدمه ، فإن الشيء يسيطر بسبب وفرته وينتج نوعاً من الإشباع ، إنه يفرض شعوراً لا يحتمل من الشؤم البادي من رتابة ما يرى حوله ، فيولد ميلاً نحو الهروب إلى الأمام الذي يدفع الإنسان المتحضر دائماً إلى تغيير إطار الحياة وفق صرعات الموضة في كل شيء حوله .
لكن طغيان الشخص يؤدي إلى نتائج في الإطار السياسي والجتماعي تهدم بنيان الفكرة حينما تتجسد فيه . وكثيراً ما تعمد مراصد الرقابة في حركة العالم الثالث إلى دفع هذا الاتجاه المرضي إلى نهايته في عقول الجماهير لتحطم الفكرة البناءة من وراء سقوط الأشخاص الذين يمثلونها في النهاية ، وتدفع الجماهير للبحث عن بديل للفكرة الاصلية من الشرق والغرب عبر بطل جديد .
فعدم التوازن في العناصر الثلاثة يفضي بنا على انهيار المجتمع ، والمجتمع العربي الإسلامي يعاني في الوقت الحاضر بصورة خاصة من هذه الاتجاهات ، لأن نهضته لم يُخطط لها . ولم يُفكر بها بطريقة تأخذ بإعتبارها عوامل التبديد والتعويق سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي ، وعلى الأغلب الاثنين معاً .
إن أهمية الأفكار في حياة مجتمع معين تتجلى في صورتين : فهي إما ان تؤثر بوصفها عوامل نهوض بالحياة الاجتماعية ، وإما أن تؤثر على عكس ذلك بوصفها عوامل ممرضة ، تجعل النمو الاجتماعي صعباً أو مستحيلاً .
وهنالك فضلاً عن ذلك جانب آخر لأهمية الأفكار في العالم الحديث : ففي القرن التاسع عشر كانت العلاقات بين الأمم والشعوب علاقات قوة ، وكان مركز الأمة يقدر بعدد مصانعها، ومدافعها، واساطيلها البحرية، ورصيدها من الذهب، ولكن القرن العشرين قد سجل في هذا الصدد تطوراً معلوماً ، هو أنه قد أعلى من الفكرة باعتبارها قيمة قومية ودولية . هذا التطور لم تشعر به كثيراً البلدان المتخلفة ، لأن عقدة تخلفها ذاتها قد نصبت في طريقها ضرباً من الغرام السقيم بمقاييس القوة أي بالمقاييس القائمة على (الأشياء) .
فالإنسان المتخلف وبسبب عقدة تخلفه يرد المسافة بين التقدم والتخلف إلى نطاق (عالم الأشياء) ، أو هو بتعبير آخر يرى أن تخلفه متمثل في نقص مالديه من مدافع وطائرات ومصارف...الخ  .
وبذلك يفقد مركب النقص لديه فاعليته الاجتماعية ، إذ ينتهي من الوجهة النفسية إلى التشاؤم كما ينتهي من الوجهة الاجتماعية إلى تكديس المشكلات ، فلكي يصبح مركب النقص لديه فَعّالاً مؤثراً ينبغي أن يرد الإنسان تخلفه إلى مستوى الأفكار لا إلى مستوى الأشياء ، فإن تطور العالم الجديد دائماً يتركز اعتماده على المقاييس الفكرية .

ومشكلة الثقافة من الوجهة التربوية هي في جوهرها مشكلة توجيه الأفكار ، ولذلك كان علينا أن نحدد المعنى العام لفكرة التوجيه ، فهو بصفة عامة قوة في الأساس ، وتوافق في السير ، ووحدة في الهدف ، فكم من طاقات وقوى لم تُستخدم؛ لأننا لا نعرف كيف نُكتّلها ، وكم من طاقات وقوى ضاعت فلم تحقق هدفها حين زحمتها قوى أخرى صادرة عن المصدر نفسه ، ومتجهة إلى الهدف نفسه(67:3)
فالتوجيه هو تجنب الإسراف في الجهد وفي الوقت ، فهناك ملايين السواعد العاملة والعقول المفكرة في البلاد الإسلامية صالحة لأن تستخدم في كل وقت ، والمهم هو أن ندير هذا الجهاز الهائل المكون من ملايين السواعد والعقول ، في أحسن ظروفه الزمنية والإنتاجية. وهذا الجهاز حين يتحرك يحدد مجرى التاريخ نحو الهدف المنشود .
فلا يكفي مطلقاً أن ننتج أفكاراً ، بل يجب أن نوجهها طبقاً لمهمتها الاجتماعية التي نريد تحقيقها(67:3)
إننا نرى في حياتنا اليومية جانباً كبيراً من اللا فاعلية في أعمالنا ، إذ يذهب جزء كبير منها في العبث وفي المحاولات الهازلة .
وإذا ما أردنا حصراً لهذه القضية فإننا نرى سببها الأصيل في افتقادها الضابط الذي يربط بين الأشياء ووسائلها، وبين الأشياء وأهدافها ، فثقافتنا لا تعرف مثلها العليا وفكرتنا لا تعرف التحقيق ، وإن ذلك كله ليتكرر في كل عمل نعمله وفي كل خطوة نخطوها (87:3)
إن الذي نقص العربي ليس منطق الفكرة، ولكن منطق العمل والحركة، وهو لا يفكر ليعمل بل ليقول كلاماً مجرداً ، بل إنه أكثر من ذلك يبغض أولئك الذين يفكرون تفكيراً مؤثراً ويقولون كلاماً منطقياً من شأنه أن يتحول في الحال إلى عمل ونشاط .
أما في مستوى المجتمع الذي يعيش أزمة ثقافية فإننا نستطيع حصر العديد من الملاحظات ويكفينا لذلك أن نرى بالعين المجردة ما يدور في حياته الاقتصادية والسياسية.
إننا لو وضعنا سلماً للقيم الثقافية جنباً إلى جنب مع السلم الاجتماعي لقررنا مبدئياً أن السلمين يتجهان في الاتجاه نفسه من الأسفل إلى الأعلى أي أن المراكز الاجتماعية تكون تلقائياً موزعة حسب الدرجات الثقافية .
وهذه حقيقة نمارسها في حياة كل مجتمع ولو كان يواجه بعض الأزمة الثقافية على شرط أنها لم تبلغ درجة اللارجوع ، أما في المجتمع الذي بلغ هذه الدرجة ، فإن السلمين ينعكسان ، الواحد بالنسبة للآخر إنعكاساً تصبح معه القاعدة الشعبية - على الأقل بمحافظتها على الأخلاق – أثرى ثقافياً من قيادتها ، فمن يرقى درجات السلم ويأخذ مكانه ودوره الاجتماعي في العالم المتخلف ليس من أهل الدرجات العلمية الثقافية ، بل من يرضى عليه أولو الأمر في السلطة(94:3)
لكن كيف نخلص الإنسان من الاستعمار الثقافي ؟ والذي معناه استمرار الاستعمار السياسي والاقتصادي إن الإنسان المطلوب تغييره من أجل تنشيط عملية البناء الحضاري لا يمكن تغييره وتخليصه من الدونية باتجاه الآخر المستعمر ، إلا إذا هيأنا له مناخاً تربوياً متحرراً من النفوذ الاستعماري وجواً ثقافياً أصيلاً . وشعوراً متعالياً بالشخصية وعلى أي حال فإن الفرد منذ ولادته في عالم من الأفكار والأشياء يعتبر معها في حوار دائم ، فالمحيط الثقافي الداخلي الذي ينام الإنسان في ثناياه ويصحو ، والصورة التي تجري عليها حياتنا اليومية تُكَوّنُ في الحقيقة إطارنا الثقافي الذي يخاطب كل تفصيل فيه روحنا بلغة ملّفزة ، ولكن سرعان ما تصبح بعض عباراتها مفهومة لنا ولمعاصرينا ، عندما تفسرها لنا ظروف استثنائية تتصل مرة واحدة بعالم الأفكار وعالم الأشياء وعالم العناصر ، فإذا بها تكشف عن مضمونها تماماً كما كشفت التفاحة لنيوتن عن سر الجاذبية (55:3 )
فالإبداع والعطاء لن يكونا إلا عندما نترك لعالم الأفكار أن يحاول حلَّ خفايا عالم الاشياء في هذه الحالة تتوالى الحلول تترى ، وبذلك تقوم النهضة العلمية في مجتمع ما ، أما إذا كان عالم الأفكار مستعاراً فسيكون عنده قصور في الكشف ، وتراوح الأمور العلمية مكانها .
وإذا أردنا أن ننشئ ذاتاً جديدة لإنسان اليوم في العالم العربي والإسلامي ، فيقتضي ذلك قبل كل شيء تنقية المحيط الأسروي ، والمدرسي ، والاجتماعي العام ، من الإستعارات التي تحمل في طياتها هدفاً إستعمارياً تخريبياً ، يحاول زرع التفقير والتجهيل والإنحراف في مجتمعاتنا بشتى الوسائل ، وأهمها استغلال غفلتنا (222:8)
ويتحدد دور ومكانة الفرد في أمته تبعاً لعلاقة المجتمع بالأشياء أم بالأشخاص أم بالأفكار ، إذ يمكن الإشارة إلى أوجه التشابه بين بعض مظاهر النمو العقلي عند الفرد ، والتطور النفسي – الاجتماعي للمجتمع ، وهذا الأخير يمر هو أيضاً بالأعمار الثلاثة
1-مرحلة الشيء .
2-مرحلة الشخص .
3-مرحلة الفكرة .
بيد أن الانتقال هنا من مرحلة إلى مرحلة أخرى ليس بالوضوح الذي نراه عند الفرد . فكل مجتمع مهما كان مستواه من التطور له عامله الثقافي المعقد ، ففي نشاطه المتناغم هنالك تشابك بين العوالم الثلاثة : الأشياء والأشخاص ، والأفكار، ولكن يظل هنالك دائماً رجحان لأحد هذه العوالم الثلاثة ، وبهذا الرجحان الذي يظهر في سلوك المجتمع وفكره يتميز كل مجتمع عن سواه من المجتمعات(36:4) .
فالمجتمع المتخلف ليس موسوماً حتماً بنقص في الوسائل المادية (الأشياء) ، وإنما بافتقاره للأفكار ، ويتجلى بصفة خاصة في طريقة استخدامه للوسائل المتوفرة لديه ، بقدر متفاوت من الفاعلية ، وفي عجزه عن إيجاد غيرها ، وعلى الأخص في أسلوبه في طرح مشاكله أو عدم طرحها على الإطلاق ، عندما يتخلى عن أي رغبة ولو مترددة بالتصدي لها ، أما حاله مع عالم الأشخاص ، فإنه يدور حول شخص الزعيم فيجعل منه وثناً يُعبد .
ولا خلاص لمجتمع من تخلفه إلا إذا كان عالم أشياءه وأشخاصه يدور حول عالم الأفكار، فالثورة حين تخشى أخطاءها ليست بثورة، وإذا هي اكتشفت خطأ من أخطائها ثم التفتت عنه فالأمر أدهى وأمر .
وفي هذا يقول ماركس : يجب دائماً أن نكشف الفضيحة عندما نكتشفها حتى لا تلتهمنا(16،15:2) .
- فإن أي ثورة ، لن تستطيع تغيير الإنسان إن لم تكن لها قاعدة أخلاقية قوية(21:2) .
- إن الحوار بين المسؤولين والجماهير يعيد الجسر الذي يصل الشعب بالدولة، وليس غريباً في هذا المناخ من الثقة المتبادلة أن تتحقق المعجزات ، ولو كان ثمنها مزيداً من التقشف لأن الصعوبات لا تزال بين عشية وضحاها بعصا سحرية(24،23:2)، وعلينا أن نقدم الواجب قبل أن نطالب بالحقوق .
- أما الحق ... فما أغراها من كلمة ! إنها كالعسل يجذب الذباب ويجتذب الانتفاعيين والوصوليين والانتفاعين الإنتهازيين بينما كلمة الواجب لا تجتذب غير النافعين الذين يسعون حقاً لنهضة مجتمعهم(29:2). فالفرد في المجتمع المتخلف يطالب بحقوقه قبل أن يقوم بواجباته ، بينما أداء الواجب هو الكفيل الوحيد بالحصول على الحقوق ، فإذا أردت أن تصلح أمر الدولة اصلح نفسك(34:2) .

2-التراب : وهو العنصر الثاني الذي يشكل الحضارة مع الإنسان والوقت في فكر مالك ابن نبي .
وحيث يتكلم عن التراب لا يبحث في خصائصه وطبيعته ، ولكن يتكلم عن التراب من حيث قيمته الاجتماعية ، وهذه القيمة الاجتماعية للتراب مستمدة من قيمة مالكيه ، فحينما تكون قيمة الأمة مرتفعة، وحضارتها متقدمة، يكون التراب غالي القيمة ، وحيث تكون الأمة متخلفة – كما هو الحال اليوم - يكون التراب على قدرها من الانحطاط ، وذلك بسبب تأخر القوم الذين يعيشون عليه ، فها هي رمال الصحراء تغزو بشراسة الحقول الخضراء على امتداد الوطن العربي . فتترك أهلها يتامى بين يدي الصحراء المقفرة(140:1) .

وبدهي أنه لا حل لهذه الأزمة غير الشجرة ، لكن إذا كان الإنسان الزارع لهذه الشجرة أو المؤتمن على رعايتها ، يعيش حالة تصحر داخلي ، فلا أمل من رؤية اللون الأخضر مرة ثانية تحت نظر ويد إنسان كهذا . ولنا في سورية تجربة لوقف التصحر يمكن أن نعتبرها متقدمة ، فسنوياً يعلن المسؤولون أنه تم غرس عشرات الملايين من الغراس ، لكننا على يقين أن واقع الحال غير ذلك سواء لعدم العناية المستمرة ، أو لعدم الدقة في الرقم الإحصائي.
إن ترابنا العربي لا يزال بكراً، رغم كل أشكال النهب التي مورست عليه في السطح أو في العمق من قبل الآخرين، وعلى الأغلب بسبب إهمالنا له وبشكل عدواني .

3- الوقت : وهو العنصر الثالث في تكوين الحضارة
إن الزمن نهر قديم يعبر العالم ، ويروي في أربع وعشرين ساعة الرقعة التي يعيش فيها كل شعب؛ والحقل الذي يعمل به وهذه الساعات التي تصبح تاريخاًً هنا و هناك ؛ قد تصير عدماً إذا مرت فوق رؤوس لا تسمع خريرها ، وإذا قسنا الزمن بمقياس الساعات التائهة فالقرون لا تساوي شيئاً(59:2) .
ولكنه نهر صامت حتى إننا ننساه أحياناً ، وتنسى الحضارات في ساعات الغفلة أو نشوة الحظ قيمته التي لا تعوض(145:1)، وحينما لا يكون الوقت من أجل الإثراء أو تحصيل النعم الفانية ، أي حينما يكون ضرورياً للمحافظة على البقاء ، أو لتحقيق الخلود والانتصار على الأخطار ، يسمع الناس فجأة صوت الساعات الهاربة ، ويدركون قيمتها التي لا تعوض ، ففي هذه الساعات لا تهم الناس الثروة أو السعادة أو الألم ، وإنما الساعات نفسها . فيتحدثون حينئذ عن (ساعات العمل) ، فهي العملة الوحيدة المصقلة التي لا تبطل ، ولا تسترد إذا ضاعت ، إن العملة الذهبية يمكن أن تضيع ، وأن يجدها المرء بعد ضياعها ، ولكن لا تستطيع أي قوة في العالم أن تحطم دقيقة ، ولا أن تستعيدها إذا مضت(146:1).

وحظ الشعب العربي والإسلامي من الساعات كحظ أي شعب متحضر ، ولكن عندما يدق الناقوس منادياً الرجال والنساء والأطفال إلى مجالات العمل في البلاد المتحضرة ... فأين يذهب الشعب ؟ تلكم هي المسألة المؤلمة .. فنحن في العالم الإسلامي نعرف شيئاً يسمى (الوقت)! . ولكنه الوقت الذي ينتهي إلى عدم ، ولأننا لا ندرك معناه ولا تجزئته الفنية ؛ لأننا لا ندرك قيمة أجزائه من ساعة ودقيقة وثانية ، ولسنا نعرف إلى الآن فكرة (الزمن) الذي يتصل اتصالاً وثيقاً بالتاريخ(146:7) وبتحديد فكرة الزمن يتحدد معنى التأثير والإنتاج ، وهو معنى الحياة الحاضرة الذي ينقصنا ، هذا المعنى الذي لم نكسبه بعد ، هو مفهوم الزمن الداخل في تكوين الفكرة والنشاط ، في تكوين المعاني والأشياء .

فالتاريخ والحياة الخاضعان للتوقيت كان وما يزال يفوتنا قطارهما ، فنحن في حاجة ملحة إلى توقيت دقيق ، وخطوات واسعة لكي نعوض تأخرنا . ويكون ذلك بتحديد المنطقة التي ترويها ساعات معينة ، من الساعات الأربع والعشرين التي تمر على أرضنا يومياً(147:1) .

إن وقتنا الزاحف صوب التاريخ ، لا يجب أن يضيع هباء ، كما يهرب الماء من ساقية خربة. ولا شك أن التربية هي الوسيلة الضرورية التي تعلم الشعب العربي الإسلامي تماماً قيمة هذا الأمر . ولكن بأية وسيلة تربوية ؟
إنه من الصعب أن يسمع شعب ثرثار الصوت الصامت لخطى الوقت الهارب! (147:1)
إن شعباً هذه حاله أحوج ما يكون إلى قدوة، وطنية ، قيادية ، حازمة في تطبيق القانون على الجميع ، ولا تسمح لأي انحراف عن مشروع النهضة التي تعلنه ريثما يعتاد الأفراد على هذا السلوك في حياتهم اليومية فتصبح ساعات العمل حقيقية ومن خلال إنسان يستطيع استغلال الوقت على أكمل وجه نستطيع أن نقول : أننا بدأنا نهضة عملية علمية حقيقية وفق خوارزميات التغيير الإجتماعي التي تناسبنا ، و النهضة لا تقوم إلا بأيدي الأتقياء و الأذكياء.

وقد أمعن مالك بن نبي في الحفر حول مشكلات التخلف المزمنة متجاوزا الظواهر الطافية على السطوح إلى الجذور المتغلغلة في الأعماق،وباحثا عن السنن والقوانين الكفيلة بتحول الشعوب من حالة العجز إلى القدرة والفعالية، ومن مشكلة الاستعمار إلى مرض القابلية للاستعمار، ومن حالة تكديس الأشياء إلى حالة البناء، ومن المطالبة بالحقوق إلى القيام بالواجب أولا، والانتقال من عالم الأشياء والأشخاص إلى عالم الأفكار التي بها نبدأ بحل مشكلة التخلف، ويجب أن نصل إلى قناعة حتمية بأن مفاتيح حل المشكلات هي في الذات لا عند الآخر.

السياسة وحكمة الجماهير

الجمعة، 13 أبريل 2012

كي يتحدث الدين إلى الضمير الإنساني، غالبا ما يستعمل الرموز يعبر بها عن مفاهيم تغيب عن العقول لأنها متصلة بعالم الغيب.
وحتى علم الرياضة، يستعمل الرموز في صورة معادلات.
وقد عرفت الشعوب، من خلال تجاربها الروحية أو العملية قوة هذا التعبير، فأصبح الرمز وسيلة تعبير ضرورية، كلما كان التعبير العادي لا يستطيع تبليغ معنى من المعاني بالضبط الكافي، أو كان التعبير مما لا يستسيغه العرف والذوق.
وثقافات الجماهير كلها، كونت تراثها من أمثال استعارات وحكم، لا تعبر فحسب عن حكمة شعوب ضاربة في القدم، بل إنها تطابق مواقف واقعية معينة تطرأ فعلا في حياتهم اليومية.
وهكذا يجد كل شعب، تحت يده أداة متطابقة لنطق جماهيره، وقد يغتبط الشعب الجزائري من هذه الناحية، لأن أمثاله وحكمه وقصصه تكون أداة جدلية على مستوى رفيع.
واذا أصغيت إلى حديث عجائزنا، تدرك مدى الأهمية العملية لهذه الأداة.. فعندما يدخل حديث في الضباب ويكاد فحواه يتبخر، تأتيك المرأة
العجوز بمثل أو حكمة أو قصة تعيد بها الحديث إلى مجراه وتمسك معناه في اللحظة التي كاد يفلت فيها.
ليسمح لي القارئ بهذا التمهيد، فقد بدا لي ضروريا لأن العنوان نفسه يسوقني إلى التدليل بحكايات شعبية واختيار اثنتين منها على الأقل.
كانت جدتي تقص لي العديد من قصص جحا، وإني لأذكر إحداها لما أرى فيها من دلالة بإشارة واحدة، على المعنى النفسي والمنهجي الذي أريد إبرازه في هذه السطور.
فقد كان جحا ذات يوم من أيام الشتاء الباردة، يدفئ يديه مع بعض رفاقه، وبينما هو حول نار موقدة في كوخ من تلك الاكواخ المنتشرة في المرتفعات الجزائرية إذا بالنار بدأت تخمد لنفاد الحطب.
قال الجماعة:
- هلم، نذهب فنحتطب في الغابة.
وهرع كل واحد إلى عدته وتوجه إلى الغابة وكذلك فعل جحا، ثم رجع كل واحد بحزمة حطب إلا جحا فقد استبطأه رفاقه حين لم يعد وقالوا:
- هلموا نر ماصنع الله بجحا.
واقتفى الرفاق أثر جحا في الغابة حتى وجدوه في ناحية وهو يلف حبله حول المئات أو الآلاف من الشجر.
سألوه: ماذا تصنع يا جحا؟
أجاب بطلنا:
ألا ترونني أريد أن أحمل كل شجر الغابة مرة واحدة، حتى لا نعود نحتطب كل يوم؟
ذهل الرفاق إعجابا بجحا وإكبارا له، بل خجلوا أمام محاولة ضخمة كهذه، خجلوا إذ لم يأت كل واحد منهم إلا بحزمة، ثم تضرعوا إلى جحا كي يترك محاولته هذه إلى يوم آخر، لأن لديهم ما يكفيهم ذلك اليوم بما احتطبوا هم.
هكذا تفضل عليهم جحا بتلبية رغبتهم فرجع معهم، شامخ الأنف يتدفأ على نارهم دون أن يأتي بعود واحد.
إلى هنا تنتهي القصة تترك لمستمعها استنتاج العبرة.
لكن جدتي قصت علي قصة أخرى، لا تقل عبرة:
فقد كانت عشيرة من العشائر على أهبة الرحيل، تطوي البيوت وتضع المتاع على جمالها، وأناخ جمل من الجمال فأثقلوه بمتاعهم حتى لم يستطع الحراك.
ثم انتبه القوم إلى دفتي رحا مما هو موجود في أريافنا حتى اليوم، فقام رجل منهم يضع الرحا على ظهر الجمل والتفتت عجوز من العشيرة فقالت عطفا على الجمل:
- لا تضعوا الرحا عليه بل ضعوها على ظهر جمل غيره.
لكن الجمل التفت إليها وقال:
- بل ضعوها على ظهري، لا ضرر في ذلك إنني لن أستطيع القيام على كل حال.
واليوم وبعد أكثر من نصف قرن حين تعود إلى ذاكرتي هاتان القصتان مع ذكريات عذبة أو مثيرة، أو حين أسمعها في سمر الأطفال، أجد أن جحا والجمل يعبران عن حكمة واحدة لكنهما من حيث التعبير عنها يختلفان: حيث حسن النبية في الجمل وسوء النبية في جحا.
إن رمز القصتين واحد، إنهما تدلان على العمل المستحيل.
فموقف جحا موقف من يحاول عملا مستحيلا فيستغل بذلك عمل الآخرين، إنه المحتال يستغل سذاجة الآخرين، بينما يبدو لناظرهم في مظهر البطل، إن ضحاياه أولئك الذين يلقبونه بطلا.
أما الجمل فهو ليس بالمحتال، لكنه يسخر بنكتة تكشف لنا أيضاً سذاجة الآخرين، ونكتة تضحكنا من أولئك الذين يضعون العمل في الشروط التي تجعله مستحيلا.
وبعبارة أخرى. فإن جحا يستطيع أن يقدم لنا درسا في (البلوتيك) أو على الأقل يدلنا على أحد أعراضها النفسية. وسيكون درسه مفيدا لمن يريد درسا عن الكسب غير المشروع، عن الديماغوجية في سوق (البلوتيك) .
إن (رجل الأقدار) كما يقولون، أي الزعيم الذي لا ضمير له يعرف المزايدة الديماغوجية لإغواء البُلْه في السوق.
واعتقد أن جحا قد قدم الدرس هذا للجزائر، دون أن تستفيد منه خلال الثلاتين سنة الأخيرة، ولم تستفد منه إلى 19 حزيران (يونيو) سنة 1965.
أما درس (الجمل) فهو درس في المنهج، كان لنا أن نستفيد منه خصوصا منذ الإستقلال، يفيدنا في العمل كيف ينبغي أن تتحقق شروطه ليكون ممكنا.
وكأن جحا يقول في الحقيقة القول نفسه، وإنما بطريقة المحتال الذي يقوم بعمل مستحيل علما بأنه لا يعمل شيئا.
أما الجمل فيقوله بصراحة، ومن حسن النية، غير أنه يستعمل النكتة.
فمؤدى كلامه أن من يضع عمله في ظروف تجعله فوق طاقته، يعلم أنه محكوم عليه بألا يعمل شيئا. وإن حاول على الرغم من ذلك القيام بشيء فلن يحسن صنعا.
حبذا لو كان الجمل أستاذنا خصوصا منذ الإستقلال. لأننا كنا في حاجة إلى دروس في منهجية العمل في سائر مستويات عملنا.
فلنقدر المنهجية أولا، في مستوى الحديث المجرد، لأن كل عمل إجتماعي يقتضي تبادل أفكار بين عدد من الأشخاص.
إن الحوار هو أبسط صورة لتبادل الأفكار، وهو بذلك الرحلة التمهيدية البسيطة لكل عمل مشترك.
فقواعد الحديث إذن لا تخص حسن الآداب فقط، بل هي جزء رئيسي من تقنية العمل. ونحن نجد هذه الصلة، بصورة رمزية، في العهد القديم عندما يقص علينا كيف أصبح عمل القوم مستحيلا في تشييد برج بابل، عندما اختلفت ألسنتهم، ففي هذه القصة نرى كيف تعطل العمل حالما تعطل تبليغ الافكار بالكلام.
فالقضية إذن لا تخص قواعد الحديث وحسن السلوك في الصالونات فحسب، بل تخص مباشرة تقنية العمل من زاوية الفعالية.
فحيثما يبتعد الحديث عن التسلية المحضة، يجب أن يخضع لقواعد العمل، الذي ليس في بداية مرحلة تحضيره، سوى مشروع في محتوى بعض الكلمات وبعض الافكار.
وفي هذا المستوى، يتداخل الجانب الأخلاقي والجانب المنطقي ليكونا معا العمل الفعال أو العمل التافه.
ولو رفعنا القضية إلى مستوى الأمة لوجدنا أنفسنا نتساءل: هل كان لوطننا أن يسلك الطريق الذي سلكه إلى 19 حزيران (يونيو) 1965، لو أصغى إلى صوت الجمل أو تذكر قصة جحا؟
وفي هذا المستوى، نتساءل أيضاً إذا رجعنا ثلاثين عاما إلى الوراء: هل كان يمكن لأجيال من جحا أن يستولوا على المنصة السياسية الجزائرية، ويلعبوا عليها أدوارهم المشؤومة لو تذوق الشعب الجزائري نكتة الجمل؟.
حسبنا أن نقول لكم إن جداتنا أعطيننا دروسا عالية في السياسة بقصصهن البريئة، وهن يمسحن بأصابعهن الضعيفة رؤوسنا المتوسدة على ركبهن. ولكنني أرى اليوم وأنا على أبواب الشيخوخة أن هذه الدروس لم تفدنا كثيرا



  المؤلف: مالك بن نبي .